الأربعاء الثالث بعد عيد ارتفاع الصليب «الإنجيل

 

إنجيل اليوم (لو 5/ 33-39)

 

33 قال الكتبة ليسوع: "تلاميذ يوحنّا يصومون كثيرًا ويرفعون الطّلبات، ومثلهم تلاميذ الفرّيسيّين، أمّا تلاميذك فيأكلون ويشربون".

 

34 فقال لهم يسوع: "هل تستطيعون أن تجعلوا بني العرس يصومون، والعريس معهم؟

 

35 ولكن ستأتي أيّام يكون فيها العريس قد رفع من بينهم، حينئذٍ في تلك الأيّام يصومون".

 

36 وقال لهم أيضًا مثلاً: "لا أحد يقتطع رقعةً من ثوب جديد، ويرقع بها ثوبًا باليًا، وإلاّ فإنّه يمزّق الجديد، والرقعة الّتي يقتطعها منه لا تتلاءم مع الثّوب البالي.

 

37 ولا أحد يضع خمرةً جديدةً في زقاق عتيقة، وإلاّ فالخمرة الجديدة تشقّ الزّقاق، فتراق الخمرة، وتتلف الزّقاق.

 

38 بل يجب أن توضع الخمرة الجديدة في زقاقٍ جديدة.

 

39 ولا أحد يشرب خمرةً معتّقةً، ويبتغي خمرةً جديدة، بل يقول: المعتّقة أطيب!".

 

 

أوّلاً قراءتي للنّصّ

 

 أُعطيَ لهذا النصّ، في"الترجمة اللّيتورجيّة"، عنوانان، الأوّل "جدال في الصوم" (33-35)؛ والثاني "الجديد والبالي" (36-39)؛ لهذا النصّ، بعنوانيه، نصّ موازٍ في متّى (9/ 14-17)، وفي مرقس (2/ 18-22)؛ ولقد أعطى لهذا النصّ، في كتاب القراءات في القدّاس (بكركي 2005)، الشرح التالي، لا مساومة بين جديد يسوع وقديم المُمارسات اليهوديّة البالية. إنّ إنجيل يسوع وتعليمه، ليس إصلاحًا يهوديًّا، كرقعة ثوبٍ بالٍ، أو خمرة زقّ عتيق، بل هو ثوب جديد، وخمرة زقّ جديد.

 

 

الآيات (33-35)

دخل الفرّيسيّون والكتبة في جدال مع يسوع حول الصّوم، منطلقين من كون تلاميذ يوحنّا المعمدان، وتلاميذ الفرّيسيّين يصومون ويرفعون الطلبات، بينما تلاميذه يأكلون ويشربون، فطرحوا عليه السؤال التالي لماذا تلاميذك لا يصومون؟

 

فأجابهم يسوع في مجال الصّوم بالذات، أنّ تلاميذه لا يمكنهم، الآن، أن يصوموا، ولا يمكنهم، هم السّائلون بالذات، أن يجعلوهم يصومون، لأنّهم في وضع خاصّ وفريد، ومُختلف  الاختلاف كلّه عن الوضع العاديّ والخاصّ بتلاميذهم: إنّهم في عرس، بل الأحرى، في "العرس"، والعريس (أي هو بالذات) معهم؛ بينما تلاميذكم، قال الرّبّ، فإنّهم في انتظار العريس (المخلّص المنتظر)، وعليهم بالتالي، في وضعهم هذا، وما دام هذا الوضع قائمًا، أن يصوموا ويرفعوا الطلبات، ليأتي الموعود المنتظر من دون إبطاء.

 

 

ثمّ أعلمهم يسوع بأنّه، هو العريس، لن يبقى مع تلاميذه دائمًا، بل سوف يُرفع من بينهم، فيتوقّف العرس، وتتحوّل أجواؤه إلى شعور لديهم بغياب العريس، وإلى شوق شديد إليه، وإلى استحضاره من جديد، فعندئذٍ يصومون، ويرفعون الطلبات؛ وهكذا يأتي صومهم، لا ممارسة ً شرعيّة ً مفروضة، بل تعبيرًا عن إيمانهم بالمخلّص الّذي أتى ورأوه، وعن محبّتهم له، وعن رجائهم الوطيد بلقائه، أقلّه سرّيًّا، في هذه الحياة! أليس، في هذا، المعنى الحقيقيّ للصّوم في المسيحيّة؟

 

 

الآيات (36-39)

وتخطّى يسوع، في متابعة جوابه لهم، مجال الصّوم، ليقول لسائليه، صراحة، إنّه وتلاميذه ليسوا، في مجاليّ التّعليم والمُمارسة، في تواصل مع الكتبة والفرّيسيّين وتكامل في تعليمهم ومُمارساتهم؛ وقد وضّح كلامه هذا لهم بمثل "الجديد والبالي": فكما لا تداخل ولا تكامُل بين ثوبٍ جديدٍ وثوبٍ بالٍ، بين خمرةٍ جديدةٍ وزقاقٍ عتيقة، بل تعطيل متبادل، هكذا، لا تداخل ولا تكامل بين جديد تعليم يسوع وما يقتضيه من ممارسات، وبين بالي تعاليمهم وشروحاتهم وما تفرضه من ممارسات.

 

 

الآية (39)

جاء في "الترجمة اللّيتورجيّة" الشرح التالي لهذه الآية "إنّ بُشرى يسوع، وإن كانت جديدة، هي طيّبة كالخمرة المعتّقة؛ ولكن، وبما أنّنا في مجال المقارنة بين الجديد والبالي، نقترح الشّرح التالي. بُشرى يسوع هي خمرة جديدة بالنسبة إلى فهم الكتبة والفرّيسيّين لمضمون كلام الله في التوراة والأنبياء؛ وهي خمرة معتّقة بالنسبة إلى مضمون التوراة والأنبياء بالذات، لأنّها متطابقة مع هذا المضمون (معتّقة)، وتحقيقٌ لإرادة الله الخلاصيّة.

 

 

 تجب الإشارة أخيرًا وهنا، إلى أنّ المسيحيّين لم يتنبّهوا دائمًا إلى "الجديد"  في إيمانهم المسيحيّ والفريد فيه ؛ لذلك انقادوا، عبر التاريخ، إلى صبّ التّعاليم المسيحيّة، وبخاصّة الأخلاقيّة منها، في القوالب الفكريّة والدينيّة القديمة (وبالتالي غير المتلائمة معها)، التي كانت سائدة في الأوساط التي تواجدوا فيها...

 

هذه المسيحيّة التطبيقيّة أو الأخلاقيّة لم تكن، دائمًا، أمينة للمسيحيّة الأصيلة، وكثيرًا ما تشابهت، من هذه الناحية، مع "الفرّيسيّة" اليهوديّة التي لم تكن، بدورها، أمينة لروح التوراة وأقوال الأنبياء.

 

هذه المسيحيّة الأخلاقيّة، "غير الصّافية"، هي التي عرفها العالم، واتّخذ مواقف، علميّة وفلسفيّة واجتماعيّة، مُناهضة، إذا لم نقل، مناقضة لها؛ أمّا المسيحيّة الأخلاقيّة "الصّافية"، فقد سادت في الكنيسة النّاشئة، في كنيسة الرّسل والمسيحيّين الأوّلين، يوم قيل: "ما كان فيهم مُحتاج" (رسل 4/ 34)، ونتبيّنها أيضًا، هنا وهناك، في حياة العديد من المسيحيّين الذين عاشوا في خوف الله، وفي حياة آباء الكنيسة وقدّيسيها؛ كما نتبيّنها، جماعيًّا، في حياة الكنيسة اللّيتورجيّة التي هي مشاركة في حياة الملكوت.

 

 

ثانيًا "قراءة رعائيّة"

 

  الآيتان (34-35)

جاء في شرح الآية الموازية لهاتين الآيتين، في متّى (9/ 15)، ما نصّه: كان الصّوم في التقليد اليهوديّ يدّل على الحزن، على خسارة ما؛ من هو مع يسوع، لا ينقصه شيء، ولا يمكن أن يحسب حساب خسارةً.

 

العريس، في العهد القديم، هو الله (أش 54/ 4-8؛ 61/ 10؛ 62/ 4-5؛ إر 2/2؛ 31/ 3؛ هو 1-3؛ تش 4/ 8؛...)، وهو المسيح الآتي، أحيانًا (مز 45/ 7-8؛ راجع عب 1/ 8-9)، وهو يسوع نفسه، هنا؛ ولكن، حين يُرفع العريس، أي حين يُرفع على الصّليب، أو يصعد إلى مجده، فحينها يغيب، ويسيطر على الكنيسة (بني أو أهل العرس) الحزن، وعندها يصومون...، بهدف اللّقاء من جديد.

 

 

الآية (36)

هذه الصورة رقعة مأخوذة من ثوب جديد، ويرقع بها ثوب عتيق، خمرة جديدة، زقاق (وعاء من جلد) عتيق.  تدّل على تصرّف في منتهى الجهالة، ويُحدث مزيدًا من الخراب، ولا يأتي بأيّ إصلاح؛ هذه هي حال جديد الإنجيل مع التّعاليم والعادات القديمة، سواء جاءت من العالم اليهوديّ، أو من العالم الوثنيّ.

 

 

الأب توما مهنّا